دراسات: قضاء وقت أطول في الطبيعة يُحسّن عمل الدماغ

لعله من المعروف، ومنذ قرون عديدة، أن لقضاء الأوقات في الطبيعة، والقيام بالأنشطة بين أحضانها، مُتعة خاصة وتأثيرات جليّة على مزاج الفرد. إلا أنه حديثاً أضحى بوسعنا أن ندرس العلاقة ما بين قضاء وقت معين بين أحضان الطبيعة وبين آلية عمل الدماغ، وذلك بتفصيل ودقة لم تَكُن متاحةً فيما سبق. وتأتي أهمية هذه المسألة، لما نشاهده من التوسع العمراني العشوائي في العديد من مُدن الضفة الغربية الفلسطينية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى التقليل من المساحة الخضراء التي يتعرض لها الفرد في حياته اليومية.
تشير العديد من الدراسات إلى أن دماغ الإنسان، وعبر مراحل تطوره التاريخية، مُصمّم بطريقة تجعله يؤدي المهام بدقة أعلى بينما يكون الفرد خارج مكتبه أو منزله، وبين أحضان الطبيعة والمساحات الخضراء. إلا أن أعداد الأفراد (على مستوى العالم) الذين يعيشون في المدن آخذ بالازدياد، ويُتوقع أن تصل النسبة إلى 70% بحلول العام 2050 (Blarowski, 2018). ومن هنا، فإنه من الواضح أن الإنسان يُهمل يوماً تلو يوم ما للطبيعة من فوائد على صحته العقلية، ولذا نلاحظ أن معدلات الإصابة بالأمراض العقلية أعلى بين من يقطنون المدن عنها بين من يقطنون الريف والقرُى. ويمكننا فيما يلي، تلخيص أبرز التأثيرات الإيجابية لقضاء وقت في الطبيعة على الدماغ في بضعة نقاط، بناءً على مجموعة من الدراسات العلمية.
- تحسين مهارات حل المشاكل وشحذ القدرات الإبداعية:
من هذه التأثيرات، أن قضاء وقتٍ بين أحضان الطبيعة يُحسّن من قدرة الفرد على حل المشاكل (Problem-solving skills) ويزيد من القدرات الإبداعية للفرد (Creativity skills). وفي هذا السياق، قام باحثون من جامعة لندن بإخضاع مجموعة من المبحوثين لتجربة فريدة، حيث تم إبقاء المبحوثين في منطقة طبيعية دون السماح لهم باستخدام أية أجهزة الكترونية ولمدة أربعة أيام. وقد تبين أن أداء المبحوثين فيما يخص القدرات الذهنية قد تحسّن بما نسبته 50% بعد قضاء كامل المدة في الطبيعة (Atchley et al., 2012).
- صقل القدرة على التركيز:
ومن التأثيرات الإيجابية الأخرى لقضاء وقت في الطبيعة على الدماغ والوظائف المعرفية، هو تحسين قدرة الدماغ على التركيز المُثمر. ففي دراسة أجريت من قبل جامعة ميشيغان الأمريكية، تم اختبار مجموعتين من المبحوثين لأداء مهمات تتعلق بالذاكرة. وقد طُلب من المجموعة الأولى أن تقوم بجولة سير في طريقٍ عام ومكتظ وسط المدينة قبل أداء الاختبار، بينما قامت المجموعة الثانية من المبحوثين بجولةِ مشيٍ في منطقة طبيعية خضراء قبل القيام بالاختبار. اللافت أن نتائج الاختبارات أتت لصالح المجموعة التي مشت في الطبيعة بنتائج أعلى بـ 20% عن المجموعة الأخرى. وقد علّل الباحثون هذه النتيجة بحقيقة قيام الدماغ البشري بمعالجة عدد كبير من المعلومات في المدينة المكتظة مقارنة بالمنطقة الطبيعية. ومن هنا، يُعتقد أن لقضاء وقت في الطبيعة تأثير إيجابي على القدرة الاسترجاعية للدماغ (restoration) (Berman et al., 2008).
- تعزيز القدرة على التعاطف وإبداء الاهتمام بالآخرين:
تُظهر الدراسات في هذا المجال، أن تعريض أنفسنا للطبيعة يزيد من قدرتنا على التعاطف والاهتمام بالآخرين. بعد سلسلة من الدراسات، استنتج الباحثون أن قضاء وقت في الطبيعة يعدّل من قدرتنا على اتخاذ القرارات الأخلاقية، إلى جانب السلوكيات الاجتماعية الحميدة: مثل العطاء والتكافل مع الآخرين. ويعزو الباحثون هذا التأثير لكون التواجد في الطبيعة يمنح الإنسان شعوراً بأنه كائن صغير وجزءٌ من كون أكبر، مما يعزز من مقدرته على التعاطف مع الآخر عوضاً عن الأنانية المفرطة تجاه الذات.
- تقليل الأفكار السلبية والوسواسية:
يتعرض العديد منا إلى ثقل وحمل للأفكار السلبية المتكررة، والتي قد تتحول إلى وسواس مع مرور الوقت. والمثير في الموضوع، أن عدداً من الباحثين وجد أن الأفراد الذين يكثرون من التواجد في المدن المكتظة هم أكثر عرضة لمثل هذه الأفكار الهدّامة، مقارنة بمن يكثرون من التواجد في بيئات طبيعية. فحسب دراسة حديثة وجد الباحثون أن المبحوثين الذين طُلب منهم السير في الطبيعة قلت لديهم الأفكار السلبية بسبب تضائل نشاط المنطقة الدماغية المعروفة بالقشرة الجبهية الأمامية (subgenual prefrontal cortex) وهي منطقة غالباً ما ترتبط بالاضطرابات النفسية.
- المساعدة في التخفيف من اضطراب فرط الحركة والنشاط الزائد لدى الأطفال:
يعد اضطراب فرط الحركة والنشاط الزائد (ADHD) من أبرز الاضطرابات العصبية السلوكية لدى الأطفال. ولمعرفة تأثير قضاء وقت في الطبيعة على هذا الاضطراب، قام عدد من الباحثين بتجربة على عدد من طلاب المدارس، وذلك عبر الطلب منهم أن يمارسوا نشاطات ما بعد المدرسة في منطقة طبيعية بين الأشجار والبحيرات. وكما كان متوقعاً، فقد أظهرت نتائج الدراسة أن أعراض اضطراب فرط الحركة قد تضاءلت تدريجياً مع تزايد التعرض للبيئات الطبيعية وعلى امتداد فترة زمنية قصيرة.
الخلاصة:
إذن، لا مناص من الإقرار بأن لقضاء وقت في الطبيعة تأثير إيجابي ملحوظ على الأداء العقلي والبنية النفسية للفرد. ولا نُغالي إذا ما اعتبرنا أن قضاء وقت في الطبيعة له منفعة صحية، جسدية وعقلية على حد سواء. لذا، لا بد من الانتباه إلى كيفية تنظيمنا لنشاطاتنا بحيث تشمل على مزيد من الأنشطة في الهواء الطلق وبين أحضان الطبيعة، وخصوصاً إن كان الفرد يزاول عمله في مدينة مكتظة، لما ذكرناه من آثار سلبية فيما سلف. وهنا يأتي دور الجهات المسؤولة أيضاً في العمل على التوعية في هذا الصدد، وتزويد المدن بالمرافق والمتنزهات العامة، مما سينعكس إيجاباً على حياة المواطنين وإنتاجيتهم.